الجزيرة - الثلاثاء 2 ,رمضان 1421 - العدد:10288

 

 

رحلات بلجريف في سدير
الجزء الثالث
تقديم وترجمة: د, محمد بن عبدالله آل زلفة

 

 

هنا فارقنا رجال مهنا وعادوا إلى ديارهم, ولا يوجد خطر شخصي متوقع على الطريق بالنسبة لمسافرين أمثالنا في وجه فيصل ، أي في محيا فيصل أو تحته ، إذا أردنا أن نحول العبارة العربية الى الانجليزية, وبالاضافة الى ذلك فنحن على يقين من أننا سنكون من الآن فصاعدا، ومن قرية الى أخرى، ومن مدينة الى أخرى، برفقة مواطني البلدة نفسها، ليس من أجل توفير الأمن بالضرورة، وانما على سبيل التشريف, ولست بحاجة الى أن أقول إن التشريف كان مقصودا به في الأساس النائب وأبوعيسى, أما بالنسبة لنا فقد حظينا طيلة هذه المرحلة من تجوالنا بالقليل من الاهتمام نسبيا، وقد كان ذلك بالتأكيد مرغوبا فيه مع أننا لم نواجه قصورا في المعاملة الودية واللياقة في أي مكان.
في وقت مبكر من صبيحة اليوم التالي، عندما صعد كل منا على جمله بعيره العربي، وجدنا الزعيم (1) ومعه بعض الشبان من أقربائه، الذين كانوا قد امتطوا سلفا صهوات جيادهم، لحراستنا على الطريق, تابعنا لمدة نصف ساعة تقريبا المسار الصاعد من الممر الضيق، تحت ظلال أشجار الغابة كان المستوى لدهشتي واحدا والتي تتخللها أشجار النخيل التي كانت تتلألأ بين أوراقها ومضات بيضاء من الجرف الشاهق وهي تلمع في ضوء الصباح، الى أن وصلنا الى العقبة ، أو الحد الصاعد, وقد يكون جديرا بالملاحظة أن كل المنحدرات الصاعدة في هذه البلاد تحمل اسم العقبة ، أو الثنية والتي يمكن ترجمتها مؤخرا الى منعرج ، وهو مصطلح مناسب لأن حدة الارتفاع الجبلي تجعل الترتيب اللولبي للمسار ضروريا أحيانا حتى يكون عمليا بالنسبة للحيوانات المتسلقة من ذوات الأربع أرجل، باستثناء الماعز, وبهذه الطريقة يتم تمييز مثل هذا الممر باضافة الاسم العائد لأقرب موقع، فهو يحمل هنا، على سبيل المثال، اسم عقبة الغاط ، وهكذا دواليك، وذلك بغية تفادي الخلط الذي يمكن أن ينجم بصورة متكررة.
نحن الآن في المسار المسدود، أو النهاية المنقطعة من الشق الجبلي، وأمامنا مسار ضيق ومتعرج، الشبيهة بالشريط غير الملفوف من الساتان الأبيض، والذي يصل الى بضع مئات من الأقدام حتى الأرض المستوية أعلاه، وسط صخور وكتل من الجير والرمل المختلطة مع الحجارة الرملية, وكان القليل من الماء الذي ينزل عند القاعدة مباشرة، مثل بئر السبيل يوضح المجرى الذي يتخذه الجدول بعد هطول الأمطار, وهنا حدث نوع من الجدال على سبيل التأدب, فالزعيم كان يصر على مرافقتنا لمزيد من المسافة، وأبوعيسى كان يصر على عودته الى دياره لأن الفرس ظلوا صامتين كالخرس , وبعد الكثير من الأحاديث الجميلة من كلا الطرفين تمنى لنا مضيفنا السابق جميعا بصفة عامة، ومن ثم كل واحد منا على حدة، انطلاقة جيدة، ثم عاد أدراجه بينما ظل القليلون من أقاربه يواصلون حراستهم لنا.
سرعان ما بلغنا السهل الضخم الذي سبق لي أن أعطيت قبل صفحات قليلة وصفا متوقعا له, وهنا وللمرة الأولى بعد اجتيازنا للغور الواقع بين غزة ومعان وهو إقليم سبق وصفه سلفا بما فيه الكفاية قابلتنا سماء ملبدة بالسحب وجو مضطرب، إلا أن قرائي لابد أن يتذكروا أننا الآن في السابع من أكتوبر، لهذا فلن يستغربوا عاصفة خريفية, كانت السماء التي كانت حتى ذلك الحين صافية تماما، قد بدأت فجأة، بل وبصورة فورية تقريبا، تتلبد بالسحب والعتمة، وقد بدأت عاصفة مزمجرة تندفع الى أسفل، بينما غطت سحب من الغبار الجو الى أن أصبح من العسير علينا رؤية طريقنا.
وقد جاء توقيت ذلك ليقطع ذلك الإيجاز الممل لقصة عن الاختفاء المحير لاحدى الأميرات الفارسيات نسيت اسمها ، الزوجة الخيالية للحسين بن علي، وأم زين العابدين الشهير، وكلها كانت نسج خيال الفرس الشرقي الجانح، وهي حكاية شيعية سخيفة كان النائب يسليني بها في لغة عربية رديئة للغاية الى أن قامت العاصفة المزمجرة بوضع حد لأي حديث, تلى ذلك تساقط بقع قليلة من المطر إلا أن الريح كانت أشد عنفا من أن تسمح بحمام جيد, في خلال نصف ساعة تقريبا كان كل شيء قد انقشع، ومع ذلك كانت النسمة التي لم تكن شديدة البرودة.
عند حوالي منتصف النهار كنا قد توقفنا في واد يغطيه دغل، من أجل اشعال النار واعداد القهوة, بعد ذلك واصلنا طريقنا باتجاه الشرق، والذي كان يميل قليلا باتجاه الشمال، وكنا نلتقي ما بين الفينة والأخرى مع المسافرين أو الفلاحين، إلا أن الأوروبي سوف يجد تلك الطرق غاية في الانعزالية بالمقارنة مع تلك الموجودة في موطنه الأصلي.
والذي أعجبني كثيرا هو الخضوع التام وضبط الأمن الصارم الذي فرضته الحكومة المركزية، لدرجة باتت معها مجرد حادثة السطو العابرة من الأمور النادرة للغاية في المحافظات، كما بات قطاع الطرق لا وجود لهم البتة, أخيرا، ومع اقتراب الساعة من الظهيرة في مثل الساعة من اليوم السابق التي وصلنا فيها الى الغاط، لاحت لناظرنا المجمعة ، عاصمة سدير السابقة، والتي ما زالت تشكل أحد الأماكن الهامة, وقد يتراوح تعداد سكانها، طبقا للظواهر والشهادات السمعية، ما بين العشرة والاثنى عشر ألف نسمة، وتقع المدينة بصورة متميزة فوق ربوة صغيرة تتوسط أحد الأودية العريضة الضحلة، وتحيط بها حلة زاهية من البساتين والأشجار، وتفوق كل ما سبق لي أن شاهدته في أي مكان آخر في سدير، حتى في
جلاجل، مع أن الأخيرة هذه قد حظيت بشهرة خاصة في الشعر العربي, كانت أسوار المدينة شاهقة، أي أن ارتفاعها كان يبلغ حوالي الثلاثين قدما، وكانت هناك قلعة مربعة ضخمة في قلب المدينة تطل عليها وعلى كل المنطقة الواقعة حولها, كانت الحصون الخارجية محاطة بخندق عميق للغاية ممتلئا جزئيا بالماء, أما بالنسبة للمزارع، على الطريقة النجدية، فقد كانت جميعها خارج الأسوار.
هنا كانت عائلة السديري ونحن نطلق عليهم هنا اسمهم العادي والمحلي تحكم كل المحافظة حتى تاريخ قريب, وقد قام ملوك الوهابيين (2) ، الذين كانوا دوما من أتباعهم المخلصين، بتثبيتهم في سلطتهم المتوارثة، وقد تم تعويض فقدانهم للاستقلال في هذا العقد باضافة المزيد من السلطة الفعلية, في هذا العقد الراهن كان زعيم الأسرة هو أحمد الذي تركه أبوه عند موته، بينما كان لا يزال صغيرا، زعيما على المجمعة، مع إخوته الصغار محمد وعبدالمحسن, كانت سدير لقرون خلت على تحالف وثيق مع العارض دون أن تنشأ أيةأحقاد أو نزاعات، مما كان سائدا في الماضي، بين هذين الجزأين الأساسيين من نجد, وعلى هذا الاساس قام الحاكم الوهابي هنا بالانحراف عن خطه السياسي العادي، وسمح للأسرة المحلية بالبقاء لبعض الوقت ممتلكة لحقوقها المتوارثة، دون أن يحاول ازاحتهم لصالح صنائعه أو عبيده, ولكن عندما أصبحت سدير بمرور الوقت متحدة تماما مع العارض، وكان انتشار مبادىء الدعوة الوهابية قد جعل من المقاومة أمرا غير وارد، أقدم فيصل، اعتمادا على ما صار يمتلكه بيده من شعبية في سدير، على اتخاذ قراره بأن يقوم بتطبيق قاعدته العامة على هذه الحالة الاستثنائية المطولة من خلال خلع زعماء المجمعة الأصليين, وقد أتم ذلك بشيء من اليقظة والحذر لا يقل عن اتمامه له عمليا, ففي بادىء الأمر قام بتسمية أكبرهم، أحمد، قائدا على احدى الحملات التي سوف أتطرق الى وصفها لاحقا ضد عمان, وبمجرد أن أصبح تثبته هناك بصورة مستديمة في ذلك الاقليم البعيد كمحافظ على النقطة الخارجية الوهابية في البريمى, في واقع الأمر كان ذلك نوعا من النفي التشريفي, أما بالنسبة للسديري الثاني، محمد، فقد تم نقله هو الآخر الى نقطة أخرى بعيدة من خلال تعيينه نائبا للمحافظ بمدينة الهفوف في الحساء، حيث كان المزيد من التغييرات الأخرى بانتظاره هناك, أما أصغر الثلاثة، عبدالمحسن، فقد تم تركه لفترة في المنصب الذي كان إخوته الكبار يشغلونه تباعا، زعيما على محافظته المحلية (3) .
ولكن قبل فترة ليست بالطويلة من زيارتنا كان فيصل أخيرا قد جرده هو الآخر من سلطته ولقبه، وقام بخفضه الى ما يمكن أن يطلق عليه منصب النبيل الخاص في المجمعة، التي لم تعد الآن، ومن خلال التصرف نفسه، عاصمة لسدير, وقد تم بالتالي منذ الآن فصاعدا، منح هذه الأسبقية من قبل حكومة الرياض لمدينة تويم، التي تبعد بمسيرة يوم واحد الى الجنوب الشرقي، وعلى هذا الاساس تم ارسال حاكم جديد للمحافظة من مواطني العارض باسم السلطة الوهابية, وقد أصيب عبدالمحسن بجرح عميق، ولم يكن بمقدوره أن يكون بخلاف ذلك، طبقا لما ترتب على هذه الاجراءات، وقد شاركه في ذلك كل أفراد أسرته، إلا أنهم لم يستشعروا في أنفسهم القوة الكافية، وخاصة في غياب أحمد، لكي يحاولوا انتهاز الفرصة المشكوك فيها بالمقاومة وشن حرب شبيهة بتلك التي قادتها عنيزة، وبالتالي وضعوا أفضل قناع ممكن على المسألة، وبقوا في ديارهم، وهم منشغلون في هدوء وصمت بثروتهم وتجارتهم، في انتظار أن تأخذ تقلبات الزمن بثأرهم , استقبلنا عبدالمحسن استقبالا رائعا.
كان قصره الذي كان يوما مركزا لسدير، ضخما وشامخا، وقد رتب مقر اقامتنا في طابق علوي، كانت شرفاته تطل على مشهد جميل من السهول الجبلية شمالا وشرقا، مع الحدائق والبساتين الواقعة في الأسفل في كتل خضراء تحت أقدامنا, وهنا قمنا بالاستجمام في تلك الليلة، التي لم تكن تختلف عن سابقتها، عدا في النوعية الرفيعة من الضيافة، وكذلك كان يتم، الى حد ما، تبادل القليل من عبارات مديح فيصل، وقد كان ذلك أمرا طبيعيا إذا ما وضعنا الماضي في الاعتبار, كان أبوعيسى صديقا قديما لمضيفنا، وقد جمع منه آخر أنباء الرياض والجزء الداخلي من الإمبراطورية التي ناقش معنا تفاصيلها لاحقا على انفراد, كان محمد علي يكتب مذكراته تحت ضوء مصباح فارسي، وكان من عادته أن يسجل بصورة دقيقة كل الأحداث يوما بيوم، وكان قد جمع عملا مسليا للغاية لأغراض المطالعة الخفيفة، ولو كان قد تمت ترجمته ونشره فإني أخشى أن يكون كافيا ليقذف بعملي الى الظل (4) .
لقد كانت صياغته باللغة الفارسية، إلا أن النائب كان يتحفني أحيانا برواية في الوقت الذي يقوم فيه بسردها، بسبب جهلي بالفارسية، في عربية رديئة او هندوسية جيدة, لم أفترض أن من الضروري اطلاعه بدوري على أنني اقوم بتدوين بعض المذكرات خوفا من استثارة شكوكه, لقد كانوا سلفا في حالة تنبه شديد بسبب ذكريات الانجليز في حيدر آباد أو بومباي، وقد تمت تهدئتهم مرة أخرى للركون الى الاسترخاء من خلال المظاهر الشكلية العربية، أو من خلال عقارات أبو عيسى الماهرة والمسكنة، والذي كان يقوم في كل مكان بالاطراء على المهارة الطبية، وكان يؤيد ويدعم الشخصية السورية الجديرة بالثقة لدى شريكه المرتقب في شركة الأدوية بالهفوف.
هنا بدأ مخزون النائب من التبغ ينفد، ولم يكن يدري من أين يستطيع أن يحصل على تموين اضافي جديد، في أرض تعرف فيها هذه النبتة فقط باسم المخزي أوالمخجل أو بتسمية أكثر سوءا لا ترجمة لها على الاطلاق، والتي قد تجعلها تنطبق على الانتاج المباشر لنظيراتها الشيطانية، ولكن بعد تعديل بأن الجفاف المحموم لسحنته الشيطانية قد يبدو أبعد ما يكون عن المصداقية, رغم ذلك فهذا هو اعتقاد الوهابيين الذين يؤكدون بكل حزم أن أولى براعم التبغ قد نبتت من هذا الري المفرد والشيطاني الذي يكون الاسم الذي يجدر عدم ذكره للآذان مهذبا بالنسبة له, إذن فمن الذي يستطيع أن يحلم، ناهيك عن أن يستخدم، المتاجرة في أو حتى حيازة مثل هذا الصنف الشائن؟ رغم ذلك، وعلى امتداد العالم، وبالطبع في نجد أيضا، ليس هناك من قانون لم تتم مخالفته، وليس هناك من لوائح جمركية لم تعان من التهريب, وسعيا وراء ذلك، واستنادا على الضعف الكامن في الطبيعة البشرية، ذهب حسين خادم النائب، في رحلة صيده، والنقود بيده، وسط مستودعات المجمعة، مثيرا الكثير من التقزز من خلال استفساراته المكشوفة عن المخجل هذا، إلا أن مساعيه الأولى لم يحالفها النجاح, وأخيرا لجأ الى أبو عيسى الذي كانت خبرته بالبلاد قد علمته حقائق ومناورات تتجاوز ما اكتسبه ذلك البغدادي الخام المتبلد العقل والفهم, لقد سبق لصديقنا أن مر بنفس الموقف الذي يمر به النائب حاليا، إلا أنه كان يعرف بصورة أفضل كيف ومتى يميز بين الحقيقة والظاهر، وتحت أية أقنعة يمكن للخبرة والممارسة الشخصية أن تخالف الضوابط العامة, وفي الحقيقة لم يكن عدد المدخنين في نجد قليلا بأية حال، ويشمل العديد من الأسماء الكريمة المحتد وذات المظاهر الخارجية الصارمة, وبتزويده بالكمية المطلوبة انطلق أبوعيسى في بحث هادىء وأكثر فاعلية، وسرعان ما عاود الظهور مع حقيبة تحتوي على رطلين من النبتة الشيطانية والتي قام بتسليمها للنائب بعد أن حسم بقشيشا عينيا جيدا تم اقتسامه بينه وبيننا.
نهضنا باكرا في صبيحة اليوم التالي، لأن نسيم الليل كان منعشا، وكانت القليل من ساعات النوم القليلة كافية بالنسبة لنا, كان ارتفاع المنحدر الذي تقع عليه المجمعة بأكمله يعتبر مساويا تقريبا لذلك الخاص بسطح السهل الأول، وقد تلا ذلك الآن واحد آخر ذو ارتفاع أكبر، يشكل جزءا من درب طويق, اتخذتا الأرضية المرتفعة مسارا بوصفها الأقصر، بدلا من التمسك بالمنحدر السفلي، وواصلنا سيرنا مع المناظر البستانية التي كانت تحيط بنا من كل جانب، عدا في الأمام، حيث برز، بعد مسافة قصيرة الى الشرق، نتوء جبلي ثالث وشاهق، فحجب عن ناظرنا ذلك المشهد البعيد.
بلغنا بعد شروق الشمس ظاهرة طبيعية كانت، فيما أعتقد، لا ثانية أو مثيلة لها في وسط الجزيرة العربية، كما أنها فاقت أغلب توقعاتنا أيضا، وكانت تكمن تحديدا في مصدر واسع نوعا ما للمياه الجارية، يشكل مجرى واسعا وعميقا،ذا ضفاف تكسوها الحشائش، حيث كانت الضفادع تنق وسط الأعشاب, فتحنا أعيننا في حيرة، لقد كان الأول من نوعه الذي نصادفه منذ مغادرتنا وادي الجوف, ورغم انه كان حقيقة واقعة إلا أنه كان نهيرا قصير المدى، حيث يصل فقط الى مسافة تبعد أربع أو خمس ساعات من
جلاجل، حيث يختفي وسط المزارع الموجودة بضواحيها, لقد سبق أن أوضحت بأن الجبل كان يرتفع باتجاه الشرق أكثر من الارتفاع الذي نسير عليه الآن، وبالتالي فإن ايا من هذا النهير، أو أيا من المناطق التي حوله، إن كان ثمة أي منها، لا يمكن أن يصل الى الدهناء، ناهيك عن البحر.
لقد كانت
جلاجل بالفعل قريبة وفي متناول اليد, وقد مررنا بها عند حوالي منتصف النهار، ودون أن نتوقف بها, إنها تعتبر من الأماكن المشهورة بقدمها العتيق، حيث ورد ذكرها بواسطة امرىء القيس وعنترة قبل العصر الاسلامي, وفي الوقت الراهن تعتبر هي بمثابة مدينة هامة، ذات امتداد غير عادي من بساتين النخيل وما حولها من قنوات الري التي تتزود من النهير الذي تحدثنا عنه قبل قليل, إلا أن مبانيها وقلعتها لا توفر شيئا جديرا بالاهتمام والذكر، سوى أنها تبدو في غاية الجمال عندما تلوح للناظر وسط الأشجار, بعدها بساعة لاحت أمامنا، اي على الجانب الأيسر، مدينة الروضة، أو الحديقة ، وهو اسم جنسي شامل تقريبا، وهي تبدو مطابقة لجلاجل من حيث الحجم والخصوبة المشابهة, ولا يفوتني أن أذكر بأن جلاجل تعني من حيث الترجمة الأجراس وخاصة تلك التي يتم تعليقها برقاب الضأن أو البغال، وأحيانا برقاب الإبل.
أخيرا دخلنا وسط مرتفعات السهل الأشد علوا، وكانت تنتصب هنا وهناك مثل قلاع ضخمة ذات قمم مسطحة أو منصات عريضة على كل جانب، تاركة، رغم ذلك، فتحات واسعة فيما بينها وسهولا للرعي على قدر كبير من الاتساع, وبينما كنا نعبر واحدا منها التقينا بمجموعة كبيرة من بدو مطير، الذين كانوا يوما ما سادة وحكاما لنجد الشمالية الشرقية، واصبحوا الآن، كغيرهم من إخوانهم البدو، رعايا للحكم الوهابي، بل وقد تم تدريبهم وترويضهم على نوع من المعتقد التقليدي الغامض الذي يقومون به، عندما يصبحون على مسافة آمنة من مركز السلطة، من حين لآخر بطرحه جانبا والتخلص منه، وهو يصرخون قائلين:بطلنا الإسلام ، بطلنا الصلاة ، وهم يقصدون الصلوات الخمس اليومية الواجبة على المسلمين (5) , وهم يعتبرون نسبيا أثرياء بما يمتلكونه من قطعان الماشية، ويتجولون في أرض رعوية واسعة، وسوف نلتقي، بعد فصول قليلة، مع احدى مستوطناتهم على الجانب الآخر من الخليج الفارسي, كانت تلك هي المجموعة الوحيدة ذات الأهمية من البدو الذين شاهدناهم من حائل الى الرياض، ولم يحدث لي أن شاهدت أي واحدة أخرى مماثلة عبر نجد، أو الحساء، أو عمان.
سوف استبق هنا لقاءنا الأول مع بعض البدو من بني خالد الذي حدث بالفعل في اليوم التالي, فهذه القبيلة يعود اصلها الى اليمن، وهي تشكل جزءا، ليس من أهل الشمال أو الإسماعيليين، وإنما من أهل الجنوب أو العائلة العربية القحطانية, سوف لن أدخل بعد في التسميات أو في أصولها التاريخية, إن حقيقة الانشطار الثنائي الكبير للجنس العربي تعتبر أمرا مؤكدا، وسوف نتعرض لها بالمزيد من الشرح والتوضيح في الأجزاء القادمة من هذا الكتاب, والأفراد الذين قابلناهم الآن يختلفون بصورة مدهشة في مظهرهم، واسلوب حياتهم ولهجتهم، عن بدو شمر ونجد, قاماتهم صغيرة ونحيلة، وهي أكثر ما تكون شبها بالأنموذج الهندي تقريبا، ونبرة صوتهم خفيضة، كما أن مسلكهم وتصرفهم اجمالا يعتبر أكثر رقة من ذاك الذي يتسم به بدو الشمال الذين يحبون اضفاء خشونة شديدة على تصرفاتهم قد تصل أحيانا الى درجة الاختيال والتبجح المفرط، بينما يتبع أهل الجنوب نغمة منضبطة وأكثر طاعة وإذعانا, أما لهجتهم فهي تعد أيضا مختلفة دون شك، ليس فقط في نطق ما يمكن للواحد أن يسميه الأحرف الساكنة المختلف عليها في اللغة العربية، وخاصة الجيم والكاف والقاف ، بل وفي الكلمات نفسها, وإن من شأن أمثال الميداني وبعض الأجزاء المعينة في الحماسة لأبي تمام أن تعطي القارىء المحترم فكرة عن هذه اللهجة, وهي تعتبر أكثر شبها رغم أنها أقل روعة وبلاغة للغة القرآن، كما هو الحال بالنسبة لما تمثله اغريقية هومر مقارنة مع سقراط وإكسينوفون, دخلنا في حديث مطول مع هؤلاء الرجال، كانوا ثلاثة من حيث العدد، وكانوا كما يقولون مسافرين من وادي السليل، أي من الزاوية الواقعة بين الدواسر ووادي نجران.
واغفالا في الوقت الراهن للعديد من التفاصيل المتعلقة بجغرافية ذلك الركن من الإمبراطورية الوهابية، والأعراب القحطانيين بصورة عامة، فسوف أضيف هنا فقط بأن هذه القبيلة تحديدا، أي بنو خالد، هي قبيلة واسعة الانتشار، وتنقسم الى العديد من الفروع الصغيرة، البعض منها تقطن المراعي الجنوبية من نجد والواقعة خلف العارض، والبعض الآخر اتخذت لها موطنا في اليمن, وهم يعتبرون أقل ولعا بالحرب من العشائر الشمالية, وعلى سبيل المثال مطير والعجمان وعتيبة، وهم بالتأكيد أقل منهم من حيث الطاقة والبنية الجسدية.
لم يمض وقت طويل على عبورنا مخيم مطير عندما لاحت لناظرنا أسوار التويم، وهي مدينة كبيرة تضم السكان ما بين 12 الى 15 ألف ساكن طبقا للتعداد المستخدم هنا، والذي سوف أتبعه لعدم وجود ما هو أفضل منه, وهي تعتبر أقل تميزا، في موقعها من حيث الري، من المجمعة، كما أنها أكثر برودة في طقسها، لأنها تقع على علو شاهق في ارتفاعها، ليس من السهل الأول، وإنما من الثاني، كما أنها محاطة بأكوام غير منتظمة من السلسلة الثالثة والأكثر ارتفاعا، رغم أنها تبعد عنها بمسافة قليلة, لم يكن الحاكم الفعلي، الذي خلف أو حل محل السديريين قد نسيت اسمه ، قد أظهر ميلا الى طيب المعشر بأية حال، وقد تجولت أنا وأبوعيسى جيئة وذهابا عبر شوارع المدينة الضيقة بحثا عن أحد التابعين لكي يبلغ معاليه بوصولنا، دون أن نعثر على أحد, وعندما كانت الرسالة قد بلغت إليه أخيرا، كان ترحيبه بطيئا في وصوله، وقد ظل باب القصر مغلقا، مما يؤكد بأن الحاكم كان نافرا أو مشمئزا من استقبالنا في الداخل, وسواء كان يخشى مشاهدتنا لافتقاره أو وفرته، فهذا ما لا أستطيع تحديده, وفي نهاية المطاف قام بتوزيعنا للاقامة وسط المساكن المخصصة لتابعيه, وقد تم وضع النائب ومرافقيه في أحد تلك الخواءات أو القهوات المحلقة، ونحن في آخر، والمكاويين في ثالث، وكان أبوعيسى يغدو جيئة وذهابا بينها, كان مضيفنا بالوكالة رجلا مسلما ذا طبيعة خشنة، ويتمتع بروح مرحة، وقد عاملنا بصورة جيدة, إلا أن الزقاق الذي كان منزله واقعا عليه كان مغلقا وضيقا، وكان الهواء خانقا, وعليه، فبعد تناول القهوة وأكل القليل من التمر من النوع الأصفر الطويل الذي يعتبر غريبا على نجد تقريبا، تسللنا أنا وبركات خارجين لرؤية المدينة.
كانت المنازل هنا مشيدة بصورة متلاصقة، من طابقين في الغالب الأعم، وأحيانا ثلاثة، وقد كان ارتفاع الغرف السفلى يبلغ أحيانا خمس عشرة أو ست عشرة قدما، والعلوية عشر أو اثنتي عشرة قدما، بينما كان السطح نفسه محاطا في أغلب الأحيان بجدار مصمت يبلغ ارتفاعه ست اقدام أو أكثر، الى أن يبلغ في مجمله ارتفاعا يكون مساويا لارتفاع العديد من مساكن لندن، ولا يكون في مجمله مفتقرا الى المهابة, رغم ذلك فلم يبذل إلا القليل أو لا شيء من المحاولة فيما يتعلق بالزينة الداخلية، بالكاد لم تتم مراعاة أي تناسق بين المنزل والآخر، عدا ما يمكن أن تكون مجرد ظروف المصادفة قد حددته, كانت الشوارع ضيقة ومتعرجة مجرد أزقة في الغالب، ولم تكن اقامة جمعية لتهوية المدينة من الأمور الضارة, ولست بحاجة لأن أقول بأن الشوارع، في مثل هذا الطقس غير الممطر، نادرا ما كانت مرصوفة، ولا هي بحاجة الى ذلك بالتأكيد، عدا في بعض الحالات المحددة.
كانت باحة السوق في التويم واسعة كالعادة، كانت ميدانا كبيرا للغاية، وكانت من خلال ترتيب نادر الحدوث واقعة على مقربة من الجانب الداخلي من اسوار المدينة، وليست في وسط المدينة, كان هناك العديد من المتاجر والمستودعات، اضافة الى مسجد ضخم، لكن كان انعدام المآذن والقباب يحرم المنشآت الدينية في نجد من المميزات الخارجية المتعلقة بالمظهر الذي تمتلكه في أماكن أخرى.
كان مسجد التويم (6) (ويعني حرفيا مكان السجود ) يشبه محطة ضخمة للسكك الحديدية أكثر من أي شيء آخر، إلا أنه كان يختلف عن الأخيرة في أنه لم يكن يضم غرفة منعشات، عدا المبنى الجانبي المخصص للماء البارد، وهو اللقب الذي يستحق أن يطلق على ماء الوضوء, كانت بوابات المدينة منيعة بالنسبة للبلدة، ويتم حراستها نهارا واغلاقها ليلا, وكانت الأسوار في حالة جيدة ومعقولة من الصيانة، ومحاطة بخندق خارجي عميق، خال من المياه, عند اقتراب الشمس من الغروب خرجنا من المدينة لالقاء نظرة على الحقول والبساتين, كانت التربة في المنطقة المجاورة جيدة إلا أن المياه كانت شحيحة، ورغم ذلك فقد كانت التمور ممتازة, بينما كنا نجلس فوق رابية صغيرة تطل على الطريق أتيحت لنا فرصة واسعة للتحدث مع العديد من المارة، الى داخل وخارج المدينة، حيث كانت هناك تجمعات كثيفة من القرى على كل الأطراف، وبالتالي كانت البلدة تعتبر، طبقا للمقاييس العربية، كثيفة السكان, استفدنا من الفصاحة المحلية واللهجة التقليدية للسكان، وخاصة أبناء المدينة، وبذلنا أقصى ما بوسعنا لابراز ميولهم ونزعاتهم الحقيقية, وكانوا في حقيقة الأمر وهابيين أصليين، ومخلصين لفيصل وأسرته قلبا وروحا, وربما كانت بعض الأحقاد والضغائن الطفيفة ضد المجمعة والسديريين قد أسهمت في إقناعهم بمزيد من الاعتماد المباشر على الرياض, ومما لا شك فيه أنهم قد أحرزوا تقدما لا يستهان به من حيث العدد والثروة خلال السنوات الأخيرة (7) .
عند المساء عدنا الى مأوانا لتناول طعام العشاء الذي تم ارساله إلينا من قصر الحاكم، والذي لم يكن غاية في الجودة أو الرداءة، كان الخبز مخمرا، حسبما وجدناه من هنا فصاعدا حتى الخليج الفارسي مما يعد تطورا كبيرا على أقراص شمر والقصيم غير المخمرة، رغم أن مرور الحجاج الفرس في القصيم كان مدعاة لترسيخ تقليد جديد وأفضل, وأخيرا قمنا بالتدخين الهادىء فوق السطح تحت ضوء النجوم الساطعة، ثم خلدنا الى الراحة، ولكن بالداخل، لأن الجو كان أشد برودة من أن يسمح لنا بالنوم في الهواء الطلق, ولقد كان ذلك نعمة كبيرة في الجزيرة العربية أن أيا من البعوض او الجراجس
gnats، ولا الحشرات الوثابة المعينة السائدة كثيرا في جنوب أوروبا وسوريا (والخطاب يكون واضحا من عنوانه)، لم تكن معروفة هنا, كما كان غياب الذباب أيضا، سواء ذباب الخيل أو الذباب المنزلي، أمرا مدهشا، فلم أكن أعرف عن أي بلد آخر في العالم خاليا تماما من ذلك المخلوق الأكثر شهرة، بل وإزعاجا, وإذا كان بمقدور الواحد أن يقول الشيء نفسه عن حيدان مشهور آخر، يعبر عن الحب، على الأقل في شعار ويلز! فإن الثعابين في نجد لا تقل ندرة عنها في ايرلندا ومالطة.
ففي إحدى القصص الرومانسية الظريفة التي تم نشرها بواسطة م, لامارتين تحت عنوان مذكرات فتح الله السائر (8) ، رفيق لاسكاريس السيىء الطالع، وهو من الأعمال التي سبقت الاشارة اليها سلفا، فقد تم التحدث عن تلك الزواحف بوصفها شائعة للغاية في وسط الجزيرة العربية، ليس ذلك فحسب، بل إن من المرعب التفكير فيه أن بطل م, لامارتين قد اكتشف دخلا بأكمله مليئا بجلودها المنسلخة عنها بصورة طبيعية، من كل الألوان والأحجام وهو في اعتقادي نوع من غرفة الإيداع بالنسبة للأفاعي, فما أبهج المسافرين الذين يمتلكون مثل هذا الخيال الخصب والمبدع! إن القليل من الأفاعي الضخمة العاصرة لا تشكل صنفا رديئا، على الأقل في الرواية, إلا أنني لم أتشرف بأي من مثل هذه المشاهد
Nol vidi,ne che sia .

الهوامش:
(1) الزعيم هنا هو كبير آل السديري، أمراء الغاط، ويلاحظ بأن المؤلف خصه بلقب الزعيم دون غيره، وبكل أسف أنه لم يعطنا معلومات مفصلة عن هذا الزعيم، هذا إذا عرفنا أن أبرز زعماء الأسرة السديرية خلال هذه الفترة هما من كان يتولى حكم المحافظات الجنوبية الشرقية ومقرها البريمي وإمارة الأحساء التي تعد أهم الإمارات في الدولة السعودية الثانية, وسنأتي إلى مزيد من التفاصيل عن هذين الأميرين لاحقا, المترجم .
(2) المقصود الملوك السعوديون والمؤلف يستخدم مصطلح الوهابيين مجاراة لما كان سائداً حين ذاك خاصة من قبل الخصوم, علماً بأن لا أحد من حكام آل سعود تلقب بلقب ملك خلال الدولتين السعوديتين الأولى والثانية, المترجم .
(3) من الملاحظ أن المؤلف يجهل طبيعة ما توليه القيادة السعودية من الثقة في رجالها البارزين عند تكليفهم بمهمات رسمية بما فيها التعيينات في إدارة أقاليم بعيدة أو تولي قيادة الحملات العسكرية، وهذه التكليفات نابعة من الثقة وليس لغرض النفي والإبعاد كما توهم المؤلف من خلال ما أورده عن أسرة السديري,المترجم .
(4) بكل أسف أننا ما زلنا نجهل ما كتبه الرحالة الفرس عن قلب جزيرة العرب، إذا استثنينا تلك الرحلة اليتيمة لناصر خسرو سفر نامه ولعل المختصين في الدراسات الفارسية في جامعاتنا يولون هذا الأمر شيئا من اهتمامهم,المترجم .
(5) أورد المؤلف هذه العبارات أو الكلمات في اللغة العربية مكتوبة بالحرف اللاتيني وهذه افتراضات أو توهمات من المؤلف أو نقلا غير دقيق من مرافقيه، أو من نكات الحضر التي أحياناً يردون بها على نظرة القبائل البدوية الاستعلائية للحضر، أو ربما يكون بها شيء من الصحة نتيجة الجهل المتفشي بشكل أكثر وضوحا في صفوف البادية وخاصة ما يتعلق بشؤون دينهم, المترجم .
(6) كتب المؤلف المسجد باللغة العربية وبالأحرف اللاتينية ثم أعطى لقارئه الأجنبي تفسيرا لمعنى كلمة مسجد وضعها بين قوسين, المترجم .
(7) ما يتحدث عنه المؤلف من إحراز تقدم شهدته التويم وغيرها من المدن النجدية خلال السنوات الأخيرة مرده الى فترة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي الذي وفرته فترة حكم الإمام فيصل بن تركي التي تعد غرة في تاريخ نجد, المترجم .
(8) هو فتح الله الصائغ وليس السائر كما كتبها المؤلف وربما أنه تصحيف عند الطبع, ومذكرات فتح الله عن رحلته برفقة السياسي الفرنسي لاسكاريس إلى الدرعية قد نشرت مؤخرا في دمشق وهناك من له عليها بعض التحفظ وعلى رأسهم الشيخ حمد الجاسر رحمه الله, المترجم .